فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال النسفي:

سورة البروج:
مكية.
وهي اثنتان وعشرون آية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{والسماء ذَاتِ البروج} هي البروج الاثنا عشر.
وقيل: النجوم أو عظام الكواكب {واليوم الموعود} يوم القيامة {وشاهد ومشهود} أي وشاهد في ذلك اليوم ومشهود فيه، والمراد بالشاهد من يشهد فيه من الخلائق كلهم، وبالمشهود فيه ما في ذلك اليوم من عجائبه.
وطريق تنكيرهما إما ما ذكرته في قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14] كأنه قيل: ما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود، وإما للإبهام في الوصف كأنه قيل: وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما.
وقد كثرت أقاويل المفسرين فيهما فقيل: محمد صلى الله عليه وسلم ويوم القيامة أو عيسى وأمته لقوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شهيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117].
أو أمة محمد وسائر الأمم، أو الحجر الأسود والحجيج، أو الأيام والليالي وبنو آدم للحديث: «ما من يوم إلا وينادي أنا يوم جديد وعلى ما يفعل فيّ شهيد فاغتنمني فلو غابت شمسي لم تدركني إلى يوم القيامة» أو الحفظة وبنو آدم، أو الله تعالى والخلق لقوله تعالى: {وكفى بالله شهيداً} [الفتح: 28] [النساء: 79] أو الأنبياء ومحمد عليهم السلام.
وجواب القسم محذوف يدل عليه {قتل أصحاب الأخدود} أي لعن كأنه قيل: أقسم بهذه الأشياء إنهم ملعونون يعني كفار قريش كما لعن أصحاب الأخدود، وهو خد أي شق عظيم في الأرض.
رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان لبعض الملوك ساحر فلما كبر ضموا إليه غلاماً ليعلمه السحر.
وكان في طريق الغلام راهب فسمع منه فرأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها. فقتلها فكان الغلام بعد ذلك يبرئ الأكمه والأبرص.
وعمي جليس للملك فأبرأه فأبصره الملك فسأله من رد عليك بصرك؟ فقال: ربي.
فغضب فعذبه فدل على الغلام، فعذبه فدل على الراهب، فلم يرجع الراهب عن دينه فقدّ بالمنشار، وأبى الغلام فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا فرجف بالقوم فطاحوا ونجا، فذهب به إلى قرقور فلجّجوا به ليغرقوه فدعا فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ونجا فقال للملك: لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهماً من كنانتي وتقول: باسم الله رب الغلام ثم ترميني به، فرماه فوقع في صدغه فوضع يده عليه فمات فقال الناس: آمنا برب الغلام.
فقيل للملك: نزل بك ما كنت تحذر.
فخدّ أخدوداً وملأها ناراً فمن لم يرجع عن دينه طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها فقال الصبي: يا أماه اصبري فإنك على الحق فألقي الصبي وأمه فيها»
.
{النار} بدل اشتمال من {الأخدود} {ذَاتِ الوقود} وصف لها بأنها نار عظيمة لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس {إِذْ} ظرف لقتل أي لعنوا حين أحرقوا بالنار قاعدين حولها {هُمْ عَلَيْهَا} أي الكفار على ما يدنو منها من حافات الأخدود {قعود} جلوس على الكراسي {وَهُمْ} أي الكفار {على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين} من الإحراق {شهود} يشهد بعضهم لبعض عند الملك أن أحدا منهم لم يفرط فيما أمر به وفوض إليه من التعذيب، وفيه حث للمؤمنين على الصبر وتحمل أذى أهل مكة {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ} وما عابوا منهم وما أنكروا إلا الإيمان كقوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

وقوله:
ما نَقَمُواْ من بني أمية إلا ** أنهم يحلمون إن غضبوا

وقرئ {نَقَمُواْ} بالكسر والفصيح هو الفتح {بالله العزيز الحميد} ذكر الأوصاف التي يستحق بها أن يؤمن به وهو كونه عزيزاً غالباً قادرا يخشى عقابه حميداً منعماً يجب له الحمد على نعمته ويرجى ثوابه {الذى لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} فكل من فيهما تحق عليه عبادته والخشوع له تقريراً لأن ما نَقَمُواْ منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل، وأن الناقمين أهل لأنتقام الله منهم بعذاب عظيم {والله على كُلِّ شيء شهيد} وعيد لهم يعني أنه علم ما فعلوا وهو مجازيهم عليه.
{إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات} يجوز أن يريد بالذين فتنوا أصحاب الأخدود خاصة وبالذين آمنوا المطروحين في الأخدود، ومعنى فتنوهم عذبوهم بالنار وأحرقوهم {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ} لم يرجعوا عن كفرهم {فَلَهُمْ} في الآخرة {عذاب جَهَنَّمَ} بكفرهم {وَلَهُمْ عذاب الحريق} في الدنيا لما رُوي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم، ويجوز أن يريد الذين فتنوا المؤمنين أي بلوهم بالأذى على العموم والمؤمنين المفتونين، وأن للفاتنين عذابين في الآخرة لكفرهم ولفتنتهم.
{إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار ذَلِكَ الفوز الكبير} أي الذين صبروا على تعذيب الأخدود أو هو عام {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لشديد} البطش: الأخذ بالعنف فإذا وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم، والمراد أخذه الظلمة والجبابرة بالعذاب والانتقام {إِنَّهُ هُوَ يبدئ ويعيد} أي يخلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد أن صيرهم تراباً، دل باقتداره على الابداء والإعادة على شدة بطشه، أو أوعد الكفرة بأنه يعيدهم كما أبدأهم ليبطش بهم إذ لم يشكروا نعمة الابداء وكذبوا بالإعادة {وَهُوَ الغفور} الساتر للعيوب العافي عن الذنوب {الودود} المحب لأوليائه.
وقيل: الفاعل لأهل الطاعة ما يفعله الودود من إعطائهم ما أرادوا {ذُو العرش} خالقه ومالكه {المجيد} وبالجر: حمزة وعلي على أنه صفة لـ: {العرش} ومجد الله عظمته ومجد العرش علوه وعظمه {فَعَّالٌ} خبر مبتدأ محذوف {لما يريد} تكوينه فيكون فيه دلالة خلق أفعال العباد.
{هَلُ أَتَاكَ حديث الجنود} أي قد أتاك خبر الجموع الطاغية في الأمم الخالية {فِرْعَوْنَ وثمود} بدل من {الجنود} وأراد بفرعون إياه وآله والمعنى قد عرفت تكذيب تلك الجنود للرسل وما نزل بهم لتكذيبهم {بَلِ الذين كَفَرُواْ} من قومك {فِى تَكْذيبٍ} واستيجاب للعذاب ولا يعتبرون بالجنود لا لخفاء حال الجنود عليهم لكن يكذبونك عناداً {والله مِن وَرَائِهِمْ محيط} أي عالم بأحوالهم وقادر عليهم وهم لا يعجزونه، والإحاطة بهم من ورائهم مثل لأنهم لا يفوتونه كما لا يفوت الشيء المحيط به {بَلْ هُوَ} بل هذا الذي كذبوا به {قُرْءَانٌ مجيد} شريف عالي الطبقة في الكتب وفي نظمه وإعجازه ليس كما يزعمون أنه مفترى وأنه أساطير الأولين {فِى لَوْحٍ محفوظ} من وصول الشياطين إليه {محفوظ}: نافع صفة للقرآن أي من التغيير والتبديل.
واللوح عند الحسن شيء يلوح للملائكة فيقرؤونه، وعند ابن عباس رضي الله عنهما وهو من درة بيضاء طولها ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، قلمه نور وكل شيء فيه مسطور.
مقاتل: هو على يمين العرش.
وقيل: أعلاه معقود بالعرش وأسفله في حجر ملك كريم، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن جزي:

{والسماء ذَاتِ البروج}
البروج هي المنازل المعروفة وهي اثنا عشر، تقطعها الشمس في السنة، وقيل: هي النجوم العظام، لأنها تتبرج أي تظهر {واليوم الموعود} هو يوم القيامة، باتفاق، وقد ذكر عن رسول الله صل الله عليه وسلم.
{وَشَاهِدٍ ومشهود} يحتمل الشاهد والمشهود أن يكون من الشهادة على الأمر، أو يكون من معنى الحضور، وحذف المعمول وتقديره: مشهود عليه أو مشهود به أو مشهود فيه.
وقد اضطرب الناس في تفسير الشاهد والمشهود اضطراباً عظيماً، ويتلخص من أقوالهم في الشاهد ستة عشر قولاً: يقابلها في المشهود اثنان وثلاثون قولاً.
الأول: أن الشاهد هو الله تعالى لقوله: {وكفى بالله شهيداً} [النساء: 79، 166، الفتح: 28]؛ والمشهود على هذا يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون الخلق بمعنى أنه يشهد عليهم، والآخر أن تكون الأعمال بمعنى أنه يشهد بها، والثالث أن يكون يوم القيامة، بمعنى أنه يشهد فيه أي يحضر للحساب والجزاء، أو تقع فيه الشهادة على الناس.
القول الثاني: أن الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم لقوله: {لِيَكُونَ الرسول شهيداً عَلَيْكُمْ} [الحج: 87] والمشهود على هذا يحتمل أن يكوم أمته؛ لأنه يشهد عليهم أو أعمالهم، لأنه يشهد بها أو يوم القايمة لأنه يشهد فيه، أي يحضر أو تقع فيه الشهادة على الأمة.
القول الثالث: أن الشاهد أمة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ على الناس} [البقرة: 143] والمشهود على هذا سائر الأمم؛ لأنهم يشهدون عليهم لقوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شهيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117] أو أعمالهم، أو يوم القيامة.
......
الخامس: أن الشاهد جميع الأنبياء، والمشهود أممهم لأن كل نبيّ يشهد على أمته، أو يشهد القول بأعمالهم أو يوم القيامة؛ لأنه يشهد فيه.
القول السادس: أن الشاهد الملائكة الحفظة والمشهود على هذا الناس؛ لأن الملائكة يشهدون عليهم أو الأعمال لأن الملائكة يشهدون بها أو يوم القيامة، أو صلاة الصبح لقوله: {إِنَّ قرآن الفجر كَانَ مَشهوداً} [الإسراء: 78].
القول السابع: أن الشاهد جميع الناس، لأنهم يشهدون يوم القيامة أي يحضرونها، والمشهود يوم القيامة لقوله: {وَذَلِكَ يوم مَّشهود} [هود: 103].
والقول الثامن: أن الشاهد الجوارح والمشهود عليه أصحابها، لقوله: {يوم تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} [النور: 24] أو الأعمال؛ لأن الجوارح تشهد بها يوم القيامة؛ لأن الشهادة تقع فيه.
القول التاسع: أن الشاهد الله والملائكة وأولوا العلم لقوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} [آل عمران: 18] والمشهود به الوحدانية.
القول العاشر: الشاهد جميع المخلوقات والمشهود به وجود خالقها وإثبات صفاته من الحياة والقدرة وغير ذلك.
القول الحادي عشر: أن الشاهد النجم لما ورد في الحديث: «لا صلاة بعد العصر حتى يطلع الشاهد وهو النجم» والمشهود على هذا الليل والنهار؛ لأن النجم يشهد بانقضاء النهار ودخول الليل.
القول الثاني عشر: أن الشاهد الحجر الأسود والمشهود الناس الذي يحجون.
القول الثالث عشر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وذلك أن يوم الجمعة يشهد بالأعمال ويوم عرفة يشهده جمع عظيم من الناس.
القول الرابع عشر: أن الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر قاله علي بن أبي طالب.
القول الخامس عشر: أن الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة.
القول السادس عشر أن الشاهد يوم الاثنين والمشهود يوم الجمعة.
{قتل أَصْحَابُ الأخدود} الكلام هنا في ثلاثة فصول:
الأول: في جواب القسم وفيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه قوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لشديد} [البروج: 12].
والثاني أنه: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات} [البروج: 10] وهذان القولان ضعيفان لبعد القسم من الجواب.
وثالثها أنه {قتل أصحاب الأخدود} تقديره: لقد قتل.
ورابعها أنه محذوف يدل عليه {قتل أصحاب الأخدود} تقديره: لقد قتل هؤلاء الكفار كما قتل أصحاب الأخدود، وذلك أن الكفار من قريش كانوا يعذبون من أسلم من قومهم ليرجعوا عن الإسلام، فذكر الله قصة أصحاب الأخدود وعيداً للكفار وتأنيساً للمسلمين المعذبين.
الفصل الثاني:
في تفسير لفظها:
فأما {قتل} فاختلف هل هو دعاء أو خبر؟ واختلف هل هو بمعنى القتل حقيقة أو بمعنى اللعن؟ وأما {الأخدود} فهو الشق في الأرض كالخندق وشبهه، وأما {أصحاب الأخدود} فيحتمل أن يريد بهم الكفار الذين كانوا يحرقون المؤمنين في الأخدود، أو يريد المؤمنين في الأخدود، أو يريد المؤمنين الذين حرقوا فيه، فيكون القتل حقيقة خبر، أو الأول أظهر.
الفصل الثالث في قصة أصحاب الأخدود:
وفيها أربعة أقوال:
الأول ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل معناه: «أن ملكاً كافراً أسلم أهل بلده، فأمر بالأخدود فخدّ في أفواه السكك وأضرم فيها النيران فقال: من لم يرجع عن دينه فألقوه فيها ففعلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام: يا أماه اصبري فإنك على الحق».
الثاني أن ملكاً زنى بأخته ثم أراد أن يحلل للناس نكاح الأخوات فأطاعه قوم ومنهم أخذ المجوس ذلك، عصاه قوم فحفر لهم الأخدود فأحرقهم فيه بالنار.
القول الثالث أن نبي أصحاب الأخدود كان حبشياً، وأن الحبشة بقية أصحاب الأخدود.
القول الرابع أن أصحاب الأخدود ذو نواس المذكور في قصة عبد الله بن التامر التي وقعت السير.
ويحتمل أن يكون ذو نواس الملك الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فيتفق هذا القول مع الأول فإن ذا نواس حفر أخدوداً فأوقد فيه نيراناً وألقى فيها كل من وحد الله تعالى واتبع العبد الصالح عبد الله بن التامر.
{النار ذَاتِ الوقود} النار بدل من {الأخدود}، وهو بدل اشتمال، و{الوقود} ما توقد به النار، والقصد وصف النار بالشدة والعظم {إِذْ هُمْ عليها قعود} الضمير للكفار الذين كانوا يحرقون المؤمنين في الأخدود، وهم أصحاب الأخدود على الأظهر. والعامل في {إذ} قوله: {قتل} فروي أن النار أحرقت من المؤمنين عشرين ألفاً، وقيل: سبعين ألفاً، فقتل على هذا بمعنى لعن أي لعنوا حين قعدوا على النار لتحريق المؤمنين، وروي أن الله بعث على المؤمنين ريحاً فقبضت أرواحهم وخرجت النار فأحرقت الكفار الذين كانوا عليها، فقتل على هذا بمعنى القتل الحقيقي أي قتلتهم النار؛ وقيل: الضمير في إذ هم للمؤمنين، والأول أشهر وأظهر لقوله: {وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شهود} يحتمل أن يكون بمعنى الشهادة أي: يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنه فعل ما أمره الملك من التحريق، أو يشهدون بذلك على أنفسهم يوم القيامة، أو يكون بمعنى الحضور أي كانوا حاضرين على ذلك الفعل {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله} أي ما أنكر الكفار على المؤمنين إلا أنهم آمنوا بالله، وهذا لا ينبغي أن ينكر..
فإن قيل: لم قال إن {يؤمنوا} بلفظ المضارع ولم يقل آمنوا بلفظ الماضي لأن القصة قد وقعت؟
فالجواب: أن التعذيب إنما كان على دوامهم على الإيمان، ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوهم، فلذلك ذكره بلفظ المستقبل فكأنه قال: إلا أن يدوموا على الإيمان.
{إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات} إن كانت هذه الآية في أصحاب الأخدود فالفتنة هنا بمعنى الإحراق، وإن كانت في كفار قريش فالفتنة بمعنى المحنة والتعذيب، وهذا أظهر لقوله: {ثم لم يتوبوا}، لأن أصحاب الأخدود لم يتوبوا بل ماتوا على كفرهم. وأما قريش فمنهم من أسلم وتاب، وفي الآية دليل على أن الكافر إذا أسلم يغفر له ما فعل في حال كفره لقوله صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يجبُّ ما قبله» {وَلَهُمْ عذاب الحريق} يحتمل أن يكون في الآخرة، فيكون تأكيداً لعذاب جهنم، أو نوعاً من العذاب زيادة إلى عذاب جهنم. ويحتمل أن يريد في الدنيا، وذلك على رواية أن الكفار أصحاب الأخدود أحرقتهم النار.
{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لشديد} البطش الأخذ بقوة وسرعة {إِنَّهُ هُوَ يبدئ ويعيد} أي يبدئ الخلق بالنشأة الأولى، ويعيدهم بالنشأة الآخرة للبعث، وقيل: يبدئ البطش ويعيده أي يبطش بهم في الدنيا والآخرة، والأول أظهر وأرجح لقوله: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 4] وقد ذكرنا {الودود} في اللغات {ذُو العرش المجيد} أضاف {العرش} إلى الله وخصة بالذكر لأن العرش أعظم المخلوقات، و{المجيد} من المجد وهو الشرف ورفعة القدر، وقرئ {المجيد} بالرفع صفة لـ: {ذو العرش} وقرأ حمزة والكسائي بالخفض صفة لـ: {العرش}.
{هَلُ أَتَاكَ} توقيف يراد به التنبيه وتعظيم الأمر، والمراد بذكر الجنود تهديد الكفار وتأنيس النبي صلى الله عليه وسلم.
{والله مِن وَرَآئِهِمْ محيط} تهديد لهم معناه لا يفوتونه بل يصيبهم عذابه إذا شاء.
{فِي لَوْحٍ محفوظ} يعني اللوح المحفوظ الذي في السماء وقرئ {محفوظ} بالخفض صفة لـ: {لوح} وقرأ نافع {محفوظ} بالرفع صفة لـ: {قرآن}، أي حفظه الله من التبديل والتغيير، أو حفظه المؤمنون في صدورهم. اهـ.